صورة تعبيرية: مقارنة توضح تفوق اللغة العربية على الإنجليزية
— نشر هذا المقال لأول مرة في مجلة الرسالة 17 ديسمبر 1964
كتاب «البلاغة العصرية واللغة العربية» ليس مجرد تشهير باللغة العربية، ودعوة إلى نبذها، وطعنة في ظهور الداعين إليها، والعاملين من أجل التعريب في المغرب العربي، بل هو أيضًا هجوم على الحضارة العربية والتاريخ العربي كمجتمع وجنس. فاللغة العربية متخلفة، كما يقول سلامة موسى؛ لأن — يشارك العرب معظم الأفهام البدائية في اشتقاق الملاحة بمعنى الظرف، والصَّباحة من الملح، لأن الملح كان من الأشياء الثمينة التي لم يكن يحصل عليها غير المُترَفين. أمة المتنبي، والفارابي، والبيروني، والمعري، أمة بدائية!!
وهل يصح أن نقول إن الإنجليزي عندما يصف المحبوب بأنه Sweet Heart فإن ذلك يعكس تخلف أمة الإنجليز التي كانت تستورد الحلوى ولا ينالها إلا المُترَفون، فسموا بها المعشوق؟! سخف لا يستحق أن يُناقش.
والمجتمع العربي عند سلامة موسى — كان أوتوقراطيًا أرستقراطيًا، ولا يلاحظ سلامة موسى أن هذه الكلمات غير العربية الأصل — وهو الذي يورد إحصاءً بالكلمات العربية المستوردة من اللاتينية والإفريقية — يدس فيها كلمات ((الزكاة.. وسدرة المنتهى)). أما أرستقراطية فلا ينتبه إلى أن فشلنا في ترجمتها واضطررنا إلى إدخالها في لغتنا المكتوبة يعني أنها تعبر عن ظاهرة لم يعرفها المجتمع العربي؛ فليس في مجتمعنا العربي الأصيل أرستقراطية، بل إننا حكمنا عشرة قرون فلم تُخترع الألقاب على كُثْرَة ما اخترعناه، حتى البك والباشا — وهي تركية — كانت رُتَبًا عسكرية ولا تُورَّث. فمن أين جاءت الأرستقراطية والأوتوقراطية؟
كيف فاته أن يلاحظ عجمة هذه الألفاظ، وهو الذي استدل من حبنا للملح على أننا أمة بدائية؟ وكيف يبيح لنفسه أن يتهم اللغويين العرب بالجهل؛ لأنهم لم يكتشفوا أن الزكاة منقولة عن اللفظ اللاتيني Decat، وسدرة المنتهى في Sidera Ultima؟ ما أشبه ذلك بقولهم: شكسبير هو الشيخ زبير!
والذي يتهم اللغويين العرب بالجهل يجهل أن الفعل — زَكَا — عربي، وأن السِّدْر ورد في القرآن بمعنى الشجر في سورة لا تتحدث عن النجوم…
{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}
ولكن متى كان سلامة موسى يتحرّى الدقة العلمية في كفاحه الهادف؟ يقول: «وكان المجتمع العربي القديم يعيش في ظل حكومة استبدادية لم تعرف قط معنى البرلمان أو مجلس الأمة. كان أرستقراطيًا حزبيًا عقائديًا». وهل وُلدت أمة ومعها البرلمان؟! بالعكس؛ إن الشورى، وحكم الجماعة، وديكتاتورية الأغلبية، قد مارستها جميعًا قبل أن تعرف أوروبا إذا كان دم سادتها النبلاء أحمر اللون أو أزرقه؟!
ثم تأمّل هذا الاستخراج أو الافتراء السلامي… انظر إلى ما ورثناه من المجتمع العربي القديم بشأن المرأة؛ فقد ألغى هذا المجتمع المرأة من الحياة الاجتماعية إلغاءً يكاد يكون تامًّا. وما زلنا نستعمل الكلمات القديمة فنقول: «أم فلان» أو «حرم فلان» ولا نذكر الاسم، مع أن الاسم جزء من الشخصية، وإهماله هو سُبَّة للمرأة، وإهمالنا لاسم المرأة هو تُراث لغوي يحمل إلينا عقيدة اجتماعية يجب أن نُكافحها».
ولن نناقش حكاية مكانة المرأة في الحياة الاجتماعية، بل يكفينا شاهدة من أهله… الكاتبة الألمانية الشريفة الدكتورة سيغريد هونكه في كتابها «شمس الله على الغرب»، ترجمة الدكتور فؤاد حسنين علي، تقول:
«إن امرأة مستقلة تقف في الحياة العامة ومعتركها، ألا وهي الأرملة الغنية (خديجة)، فقد رغب إليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتثقف وتتعلم مثلها مثل الرجل، وهناك علماء مشهورون يرشحون المرأة لوظيفة القضاء، كما زارت المسجد وألقت المحاضرات العامة وشرعت. ومن النساء من أصبحت مدعية واشتهرت بلقب نقيبة رجال الشرع… فهي شيخة وأستاذة، وإنها لفخر النساء. هكذا كانت تُكرَّم العالمة شُهْدَة فخر النساء بنت أبي نصر أحمد. والواقع أن العربية لم تكن رهينة البيت طالما كانت الأرستقراطية العربية هي المهيمنة على المجتمع العربي». وتقول: «فالحجاب والبعد عن الحياة الاجتماعية لم يقل بهما الإسلام».
بل يكفي أن نكشف زيف الحجة التي يلفقها سلامة موسى ليستدل بها على عزل المرأة العربية من الحياة الاجتماعية. إننا نتحدى أي سَلامسي أن يأتي في مرجع أجنبي بعدد أسماء النساء المذكورة في كتاب «الأغاني» الذي هاجمه سلامة موسى؛ لأنه كتاب رجعي يتحدث في مجالس الغناء في القصور؟!
وأم النبي اسمها آمنة، وزوجاته كلهن معروفات الأسماء، ردد المسلمون أسماءهن عبر العصور وسجلوها في كتب التراث، بينما… لا سلامة موسى ولا تلاميذه يعرفون اسم أم شكسبير، أو حتى اسم أم جونسون الرئيس الأمريكي المعاصر، أو أم بريزينف. ومن يدري اسم زوجة لويس الذي أسرناه في المنصورة؟ ولكن الكل يعرف اسم شجرة الدر أم خليل آسرة لويس.
ونحن نقول: مسز جونسون، وهي تعني حرم جونسون، ولم يلفت نظرنا فقط أن ذلك يعني تحقيرًا للمرأة أو إلغاءً لوجودها في المجتمع الأمريكي. بالعكس؛ حرم فلان أفضل اجتماعيًا من مسز فلان؛ لأن حرم هنا صفة تعادل قولنا زوج، أما مسز فهي تعبير عن الوضع القانوني الذي يُلحق المرأة بزوجها، وهو محرَّم في الإسلام. فإن كان يجوز قولنا «جاكلين كينيدي» فهو حرام في الإسلام؛ فلا يقال: عائشة عبد الله، بل عائشة بنت أبي بكر؛ لأن نسبة المرأة لأبيها أدعى لاحترام إنسانيتها، حتى ولو كانت ستُنسب لمحمد رسول الله وأشرف الخلق…
واسم المرأة كان يُستخدم في المجتمع العربي على أوسع نطاق، أما «أم فلان» فالعرب كانوا يستخدمون الكنية للتعظيم لا للتحقير؛ فهم كانوا ينادون النبي بأبي القاسم، لا استحياءً من اسمه صلى الله عليه وسلم، بل توقيرًا له.
ولكن في معركة سلامة موسى الهادفة كان يُستباح التدليس والجهل. أما وقد خسر السلامسة معركتهم وانتصرت العروبة، فلماذا نعيد نشر هذه الأشياء؟
يقول سلامة موسى: «فاستقرار الدين أدى إلى استقرار اللغة، أي إلى جمودها». وماذا عن المسيحيين العرب الذين استقروا على دينهم، ولكنهم غيروا لغتهم إلى العربية؟ وماذا عن فارس التي لم تستقر على دينها واستقرت على لغتها؟ على أية حال، ذلك يثبت ارتباط اللغة بالدين في عقل ونوايا سلامة موسى.
وهو في هجومه على العربية لا يتورع عن الانحياز للإنجليز لغةً وحضارة، وهو لا يقارن إلا بين تخلف اللغة العربية وتفوق الإنجليزية، بل حتى الشعراء! كان أبو تمام شاعرًا عربيًا، وكان ملتون شاعرًا إنجليزيًا (لاحظ الحرص على إعلان الجنسية). وقد قال الأول كلمته الكاذبة البشعة: «السيف أصدق أنباءً من الكتب»، وقال الثاني: «من يقتل إنسانًا طيبًا فإنه يقتل مخلوقًا عاقلاً هو صورة الله، ولكن من يهلك كتابًا طيبًا فإنما يهلك العقل نفسه».
وقد تكون عجمة سلامة موسى عذرًا في عدم فهمه معنى الكتب في شطرة البيت/تَمَام كما يسميها؛ فقد حالت عجمته هذه دون فهم الشعر العربي وتذوقه، هذا الشعر الذي يثبت يومًا بعد يوم أنه لا يُعطي سرَّه لجامعي أعقاب الثقافة الغربية، والذين يقتنصون البيت أو الشطرة لخدمة حربهم المقدسة ضد العربية والعرب…
ولكن ما عذر ناشري الكتاب اليوم، إذ جهلوا روعة قصيدة أبي تمام؟ القصيدة التي تعكس تفوق العقل العربي العلمي على الجهل الرومي؛ فقد قال المنجمون الروم إن عمورية لا تُفتح إلا عند نضج التين والعنب، ففتحها المعتصم الذي يمثل حضارة أرقى لا تسأل النجوم عن المستقبل، ولا تفتش في كتب الطوالع عن انتصاراتها.
ولكن كتب الطوالع هذه حولها سلامة موسى إلى الكتب بمعنى الثقافة والكلمة المكتوبة، وسوّد الصفحات في الهجوم على داعية السيف ضد الثقافة… إلخ، بل واستخدم هذا القلب للحقائق في ترجيح كفة الإنجليزي على العربي. من؟ نهاجم عروبتنا، ونمجد الإنجليز بحجج مزيفة، وأدلة — على أحسن الفروض — تثبت جهل صاحبها؟!
وحملة سلامة موسى على اللغة العربية يتوفر فيها ركن «سبق الإصرار»؛ لأنه يعرف تمامًا ماذا يعني إلغاء العربية، وهو ما كان يستهدفه الفرنسيون بمحوها من الجزائر، وما حاوله دُنْلُوب في مصر لولا مقاومة الشعب المصري الباسلة بقيادة مثقفيه الأشراف، قبل أن نُرزأ بسلامة موسى وأتباعه. كل هؤلاء الذين هاجموا اللغة العربية كانوا يستهدفون تذويب الأمة العربية.
يقول سلامة موسى: «هناك أحافير لغوية كبيرة الضرر على مجتمعنا، ومن أسوئها في مصر هاتان الكلمتان: شرق وغرب». فإن كلمة شرق توحي إلينا أننا بشر ننتمي إلى آسيا وإفريقيا، وكأننا على عداء مع أوروبا وأمريكا، كما أن كلمتي شرق وشرقيين تُحدث بين بعضنا صدودًا عن الحضارة العصرية، كأننا في حرب مع الأوروبيين.
«ثم يجب ألا ننسى المعنى الإنساني السامي في اتخاذ الحروف اللاتينية، معنى الانضمام في الثقافة إلى ألف مليون إنسان متمدين، نحيل الانفصال بيننا وبينهم إلى اتصال، والخلاف إلى وفاق. وفي كل هذا سلم وحب وإنسانية».
«اتخاذ الخط اللاتيني… خطوة نحو الاتحاد البشري».
نحن نفخر بانتمائنا لآسيا وإفريقيا… ولا نسعى للتبرؤ منهما إلى حد أن نتخلى عن عروبتنا لكي يُسمح لنا بالانتماء لأوروبا!! والقاهرة هي مركز التضامن الآسيوي–الإفريقي، فلا يعقل أن تنطلق منها هذه الآراء… وأي سخرية بالثورات التحررية والكفاح البطولي لشعبنا في سنوات (٤٥، ٥٣، ٥٨، ٦٤) (سنوات الطبعات الأربع) أن يقال لها هذا الكلام، وأن يزعم كاتب يوصف ظلمًا بالتحرر.
إن العداء مع أوروبا هو عداء لفظي سببه وجود كلمة شرق في اللغة العربية، كأنها لا توجد في اللغات الأوروبية المحترمة! أو كأننا نحن الذين قلنا: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا».
وبعد، فما أكثر ما يقال في هذا الكتاب، وما أكثر الأخطاء والانحرافات التي لا تتسع لها صفحات المجلة… ولكن ما من حجة واحدة تستطيع أن تبرر صدور هذا الكتاب اليوم، وقد كان الواجب على كل من يعنيه وجودنا القومي أن يُواري مثل هذا الكتاب… أو أن يخصف عليه من ورق النسيان كما فعل آدم وحواء؛ فهو — والحق يقال — «سَوْءَة» ثقافة، مكروه النظر إليها، فضلًا عن العبث بها وعرضها في مباهاة…